المستشكل = إسلام الحربي
الاستشكال = ليس من العقل والمنطق أنْ يسجد المسلم في صلاته على حجرة (تربة) يصنعها بيده، ويقول: هذا شرع الله وسنّة نبيّه!! فما فرقها – بالله عليكم أيها المسلمون – عن تربة الصنم التي كان المشركون يعبدونها؟! .. اللهم تمِّم عقولهم، واهدهم للإسلام!!
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله، وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
إذا وضعنا الأحكام الشرعية تحت مجهر العقل البشري الناقص بفطرته، وأخضعناها لحُكمه - كما فعل المستشكل – سنجد أنّ العديد منها غير مقنعة، على سبيل المثال، ما هو المقنع في امتناع الإنسان في يوم حارٍّ جدًّا في شهر رمضان عن تناول الطعام والشراب اللذيذين؟! وكيف يمكن أن يكون مقنعًا أنْ يستيقظ الشخص في يومٍ شديد البرودة ليتوضأ، ويؤدي صلاة الفجر مضحيًّا براحته ونومه؟! وما هو المُقنع في حرمة الرِّبا، وهو إن أخضعناه لمنطق العقل يزيد المال، وينمِّيه؟!
هذا ما أشارت إليه آيات الذكر الحكيم في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
وعلى قياس المستشكل، فإنه من غير المنطقيّ أن يسجد (السنّي السّلفي) على ظهر أخيه، ويمضي في صلاته، على رغم عدم وجود أيِّ دليلٍ شرعيٍّ يدعم ذلك الفعل في الصلاة، وهذا مما لا يتماشى مع المنطق والعقل فعلًا!!
علاوة على ذلك، فإن هذا السجود ليس من شرع الله ولا سُنّة نبيِّه، وإنما هو من تشريع عمر بن الخطاب! فكيف يُعزَف عن شرع الله وسُنّة نبيّه، ويُركَن إلى تشريعِ بشرٍ يغطّ بالذنوب والخطايا من قمّة رأسه حتى أخمص قدميه؟!
فقد روى ابن أبي شيبة في مصنَّفه بسنده عن عمر بن الخطاب، أنه قال: ((إذا لم يستطع الرجل أن يسجد يوم الجمعة فليسجد على ظهر أخيه)) [مصنَّف ابن أبي شيبة، ج3، ص83، تـ. الشثري]. قال الشثري محقّق المصنف: ((صحيح، أخرجه أحمد «217»، والطيالسي «70»، وابن حزم ج4، ص84، وعبد الرزاق «5465»)).
وقال ابن قدامة المقدسيّ في “الشرح الكبير”: ((ولنا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا اشتدّ الزحام فليَسجد على ظهر أخيه. رواه سعيد في سننه، وهذا قاله بمحضرٍ من الصحابة وغيرهم في يوم جمعةٍ، ولم يَظهر له مخالفٌ، فكان إجماعًا)) [الشرح الكبير، لابن قدامة المقدسي، ج2، ص179، ط. المنار].
وقال ابن الملقّن: ((عن عمر أنه قال: «إذا زُحم أحدكم في صلاته فليسجد على ظهر أخيه» وهذا الأثر صحيح. رواه البيهقي في «سُننه» بإسنادٍ صحيح من رواية أبي داود)) [البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير، لابن الملقّن، ج4، ص686].
قال الألباني في “تمام المنّة”: ((وصله البيهقي، وإسناده صحيح)) [تمام المنّة في التعليق على فقه السُّنة، للألباني، ص341].
فالتسليم المطلق للحكم الشرعيّ لا يُعدُّ نقصًا أو عيبًا، ولا يُفهم على أنه انخراط في الجهل أو تقليل من قيمة المسلم وكرامته، بل العيب والنقص في عدم التسليم بذلك، كما لا يعني أن يتجاهل المرء عقله، ويستسلم للتلقين! فالعقل له وظيفته الكبيرة، ولكنْ لا يختلف أحدٌ على أن وظيفته لا تكمن في محاكمة الحكم الشرعي بواسطة العقل البشري الناقص والمحدود.
قال ابن تيمية في رسالته “التدمرية”: ((فما أخبرتْ به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر، وما أمرتْ به من تفاصيل الشرائع، لا يعلمه الناس بعقولهم)) [الرسالة التدميرية، لابن تيمية، ج1، ص130].
يقول أبو المظفر السمعاني: ((وعُلم أنّ فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل، فإنهم أسسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الاتّباع للمعقول، وأهل السُّنة قالوا: الأصل في الدين الاتّباع، والمعقول تبَع)) [الانتصار لأصحاب الحديث، للسمعاني، ج1، ص81].
هذا، والتربة من جنس الأرض، والسجود عليها إنما يكون امتثالًا لأوامر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واقتداء به في صلاته، حيث ثبت – عند الفريقين – عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: ((وصلّوا كما رأيتموني أصلّي)) [صحيح البخاري، ج1، ص226، تـ. البغا].
وثبت أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان منذ بدء الدعوة يصلّي على الأرض، حتى ورد في حديثٍ رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة أنه قال: ((قال أبو جهل: هل يعفّر محمّد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم…)) [صحيح مسلم، ج4، ص2154، تـ. عبد الباقي]، ومعنى تعفير وجهه (صلى الله عليه وآله وسلم) سجوده على الأرض حالة الصلاة.
والسؤال هنا موجَّه لعلماء أهل السُّنة والسلفية: كيف كان يصلي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
قالوا: كان موضع سجوده (صلى الله عليه وآله وسلم) الأرض والتراب، لا السجاد والفرش، فقد روى البخاري في صحيحه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: ((وجُعلتْ لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيّما رجل من أمتي أدركتْه الصلاة فليصلِّ)).[صحيح البخاري، ج1، ص128].
قال ابن تيمية مستدلًّا بالحديث: ((إن الصلاة على الأرض سُنّة ثابتة بالنقل المتواتر)) [الفتاوى الكبرى، ج2، ص71].
ثم أكّد على أن النبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه كانوا يسجدون على التراب، حيث قال: ((لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – يتخذ سجادة يصلّي عليها، ولا الصحابة، بل كانوا يصلون على التراب…)) [المصدر نفسه، ج2، ص79].
ولم يقف “ابن تيمية” عند هذا الحدّ، بل تعدّاه إلى الإفتاء بأن السجود على غير الأرض والتراب بدعة منكرة، فقال: ((من اتّخذ السجّادة ليفرشها على حصر المسجد لم يكن له في هذا الفعل حجّة في السُّنة، بل كانت البدعة في ذلك منكرة)) [المصدر نفسه، ج2، ص71].
ووافقه ابن حجر العسقلاني على ذلك في كتابه “الفتح”، فقال: ((قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ”وجُعلت لي الأرض مسجدًا” أي موضعَ سجودٍ، ولا يختصّ السجود منها بموضعٍ دون غيره، ويمكن أن يكون مجازًا عن المكان المبنيّ للصلاة، وهو من مجاز التشبيه؛ لأنّه لما جازت الصلاة في جميعها كانت كالمسجد في ذلك)) [فتح الباري، ج1، ص371].
إذًا، فالمراد من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (مسجدًا)، أي موضعًا أسجد عليه، فهو حقيقة في موضع السجود، وبالإضافة إلى ذلك فقد جعله ابن حجر – شارح الصحيح – مجازًا عن المكان المبنيّ للصلاة، واعتبره من مجاز التشبيه، وهو سائغٌ لا ضير فيه.
وروى أبو حميد الساعدي في وصف سجود رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قائلًا: ((كان إذا سجد أمكن جبهته وأنفه من الأرض)) [سنن الترمذي، ج2، ص59]، قال الألباني في الإرواء: ((صحيح، رواه أبو داود (734) والترمذي (2: 59) وكذا البخاري في (رفع اليدين) (ص5-6) والبيهقي …)) [إرواء الغليل، للألباني، ج2، ص16].
وعن وائل بن حجر الحضرمي، قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم يسجد على الأرض واضعًا جبهته وأنفه في سجوده)) [مسند أحمد بن حنبل، ج4، ص317؛ المعجم الكبير، للطبراني، ج22، ص29].
إذًا، سجود الشيعة على التربة إنما هو اقتداءٌ بالنبي الأقدس (صلى الله عليه وآله وسلم) في صلاته.
وبالنتيجة، فإننا لو وضعنا مسألة سجود “أهل السُّنة السلفية” على ظهر بعضهم بعضًا في الصلاة تحت مجهر العقل والمنطق، وأخضعناها لحكمهما، سنجد أنها غير مقنعة تمامًا، فضلًا عن كونها مضحكة، وتنادي على أهلها بالسذاجة والبله.. قال جل شأنه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، فما تدبروا القرآن، وما عملوا به، بل خالفوه لمّا تركوا ما آتاهم الرسول، وأخذوا ما آتاهم عمر بن الخطاب، وكتاب الله يُصرِّح قائلًا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7].
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.