مركز الدليل العقائدي

استحالةُ رؤية الله وتفسير طلب موسى عليه السلام

تفاصيل المنشور

السؤال

إذا كانت رؤيةُ الله تعالى مستحيلةً، فكيف يطلبها نبيّ الله موسى (عليه السلام) بقوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}؟ أ لا يُعدُّ هذا دليلًا على أنّ معرفته بالله لم تكن مكتملة منذ البداية، بل تطوَّرت تدريجيًّا؟ وإذا كان في أعلى درجات القرب من الله، فكيف لم يكنْ على يقينٍ باستحالة رؤيته منذ بداية نبوّته؟ وهل يمكن أنْ تمرَّ معرفة الأنبياء بالله بمراحل من التكامل العقَديّ؟

السائل

الأزهري

تفاصيل المنشور

السؤال

إذا كانت رؤيةُ الله تعالى مستحيلةً، فكيف يطلبها نبيّ الله موسى (عليه السلام) بقوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}؟ أ لا يُعدُّ هذا دليلًا على أنّ معرفته بالله لم تكن مكتملة منذ البداية، بل تطوَّرت تدريجيًّا؟ وإذا كان في أعلى درجات القرب من الله، فكيف لم يكنْ على يقينٍ باستحالة رؤيته منذ بداية نبوّته؟ وهل يمكن أنْ تمرَّ معرفة الأنبياء بالله بمراحل من التكامل العقَديّ؟

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله، وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.

إنّ قضيّة طلب الرؤية من قِبَل نبيّ الله موسى (عليه السلام) هي من المسائل التي حاول بعضهم توظيفها لإثبات إمكان رؤية الله تعالى، أو للتشكيك في كمال المعرفة عندَ الأنبياء، غير أنّ التأمُّل في الآيات القرآنيّة والرجوع إلى النصوص المعتبَرة، يكشف بوضوحٍ زيف هذه الادّعاءات، ويُثبِت أنّ موسى (عليه السلام) كان على يقينٍ مطلقٍ باستحالة رؤية الله تعالى، وأنّ ما صدر منه لم يكنْ نابعًا من جهلٍ أو نقص في المعرفة، بل كان له بُعدٌ تربويّ وحجاجيّ يتعلّق بإقناع بني إسرائيل.

فالقرآن الكريم بيّنَ أنّ طلب رؤية الله تعالى كان شعارًا مرفوعًا من قِبَل بني إسرائيل، الذين قالوا لموسى (عليه السلام): {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55]، وهذه النبرة العجولة والجدليّة كانت ملازِمةً لهم في معظم مواقفهم مع أنبيائهم، مما اضطُرَّ موسى (عليه السلام) إلى اتّخاذ منهجٍ عمليٍّ في تفنيد شبُهاتهم وإبطال استكبارهم.

وعليه، فإنّ طلب موسى (عليه السلام) الرؤيةَ لم يكن عن حاجةٍ شخصيّة، بل كان استجابةً لما ألحّ عليه قومه فيه، بُغية إقامة الحجّة عليهم. وقد ورد في حديثِ الإمام الرضا (عليه السلام) أنّ موسى (عليه السلام) سأل اللهَ ذلك امتثالًا لأمرِه تعالى حين قال له: ((يا موسى اسألني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم)) [بحار الأنوار، للعلّامة المجلسي، ج13، ص218]، فكان ذلك استدراجًا لبني إسرائيل كي يدركوا بأنفسهم استحالةَ رؤية الله سبحانه، وهو ما حصل حين صُعِقوا لعظم ما طلبوه.

أما مَن زعَم أنّ موسى (عليه السلام) قد طلب الرؤية لنفسه، مدَّعيًا أنّ مفهوم التجسيم أو استحالة الرؤية لم يكن قد تجذَّر في وجدانه بعدُ، فهو لا يفقه مقام النبوّة، ولا يدرك ضرورة أنْ يكون النبيّ على أكمل درجات المعرفة بتوحيد الله وصفاته. فكيف يمكن لنبيٍّ مرسل، بل لنبيٍّ من أولي العزم أنْ يكون جاهلًا بهذه المسألة البديهيّة في التوحيد؟ وكيف يُعقَل أنّ موسى (عليه السلام) الذي جادل فرعون في ألوهيّة الله عزّ وجلّ، ودعا قومَه إلى التوحيد الخالص، لم يكن قد أدرك بعدُ أنّ الله سبحانه ليس بجسمٍ، ولا تدركه الأبصار؟!

إنّ هذا الزعم يتناقض مع صريح القرآن، حيث نجد أنّ موسى (عليه السلام) عندما سمع نداء الله تعالى من الشجرة {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، لم يطلب رؤية مَن يخاطبه، ولم يستفسر عن مكانه أو هيأته، مما يدلّ على أنه كان على يقينٍ مطلقٍ بأنّ الله سبحانه ليس من سنخ الموجودات التي تدركها الأبصار. فكيف يُقال بعد ذلك: إنه لم يكنْ قد استوعب بعدُ استحالة رؤية الله عزّ وجلّ؟!

إذن، موسى (عليه السلام) كانَ عالمًا بحقائق التوحيد منذ البداية، وإنّ طلبه للرؤية كان فقط لإظهار خطأ بني إسرائيل وإثبات بُطلان دعواهم بالتجربة العمليّة.. وهكذا، فإنّ المحاولة الفاشلة لتصوير موسى (عليه السلام) وكأنه كان يكتسب العقيدة بنحوٍ تدريجيٍّ، لا تصمد أمام النصوص القرآنيّة والأحاديث الواردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وهي محاولةٌ لترويج فكرة أنّ الأنبياء غير معصومين، وهي النظريةُ نفسها التي فتحت البابَ أمام التشكيك في رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قِبَل بعض المذاهب، بزعم أنه مرّ بمراحل من الشك قبل أنْ يتيقَّن من نبوّته!

والحقّ الذي لا يماري فيه عاقلٌ منصِفٌ أنّ النبوة اصطفاءٌ من الله عزّ وجلّ لمن كان في أعلى درجات الطهارة الفكريّة والنفسيّة، وأنّ النبيّ لا يمرُّ بمراحل من الشك أو الغفلة عن التوحيد الخالص، بل هو منذ البداية معصومٌ عن كلِّ خطأ في العقيدة أو العمل، وهذا ما ينطبق تمامًا على نبيِّ الله موسى (عليه السلام).

والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.