مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

اتّهام الشيعة وكتاب الله بعداء الصحابة

السائل = طالب علم
السؤال = يؤاخَذُ اليوم الشيعة بحجة أنهم أعداء لصحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنهم لا يعتقدون بعدالتهم إلا أربعًا، كما نصّت عليه بعض رواياتهم، وهم (سلمان والمقداد وعمار وأبو ذر الغفاري) .. ولكنْ من المعلوم أنّ هناك غيرهم إن تفضلتُم بذكرهم وذكر سبب ميل الشيعة لهم دون غيرهم.

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله، وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
إنّ أعظم ما يُشاع اليوم في سبيل تمكين جبابرة العالم من أعناق ‏الشيعة هو التشنيعُ عليهم بعدائهم لصحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلى الحدِّ الذي صدرتْ بحقِّهم فتاوى تُخرِجهم من حضيرة الإسلام، ومَكمن السرّ في ‏كلِّ ذلك الكيدُ والتحرُّق، والاتّهام يرجع إلى أمورٍ، مبدؤها عدمُ ‏اعتراف الشيعة بشرعيّةِ خلافة الثلاثة بعد وفاة الرسول الأعظم ‏(صلى الله عليه وآله وسلم)، ‏ ومنتهاها عدمُ ‏الاعتقاد بعدالة بعض الصحابة وإدانتهم بأعمالٍ قد صدرتْ منهم، ‏هي في الواقع مخالفةٌ لنصِّ الكتاب والسّنة النبويّة ومعاقد الإجماع، وما بينهما ‏أكثر من أنْ يُحصى، وأشهر من أنْ يُذكر.‏
وتجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد مسلمٌ واحدٌ، له في ‏دين الله نصيبٌ، يُعلن العداء لجميع صحابة رسول الله ‏(صلى الله عليه وآله وسلم)، ‏نعم، هنالك أناسٌ من الصحابة ‏شذّوا عن شِرعة الحق ومنهاجه، ومِن هذا المنطلق أجرت الشيعةُ ‏قواعد الجُرح والتعديل على جميع الصحابة، إلا أنّ هذا الإجراء ‏صار مأخذًا للحكم بكفرهم بتهمة الطعن على الصحابة والعداء لهم، مع ‏أنه خليقٌ بكل مسلمٍ أنْ يأخذ معالم دينه عن عدول الصحابة وثقاتهم، ‏لا كيفما كان، تعويلًا على مقولة عدالة عموم الصحابة، فالصُّحبة وإنْ ‏كانت عند البعض فضيلةً، إلا أنها لا تعصِم صاحبها من الخطأ، ‏وبهذا الصدد يقول الذهبي: ((فكلام الناقد الورع في الضعفاء من ‏النصح لدين الله، والذبِّ عن السنّة)) [سِيَر أعلام النبلاء، للذهبي، ج13، ص286].‏
فتقديس من لا يستحق التقديس، وتصديق من ليس أهلًا للتصديق من ‏الصحابة وإسدال الستار على قبيح أفعالهم وأقوالهم بحجّة الإمساك ‏عما جرى بينهم، كلُّ ذلك يعود على الإسلام بأسوأ العواقب، فيؤدي ‏إلى اختلاط الحديث الصحيح بالسقيم، والتباس الأمر على الناس، ‏ويتيح لأعداء الدين تحقيق مآربهم، ويسهِّل عليهم الطعن في دين الله ‏تعالى، وفي نبيِّه العظيم ‏(صلى الله عليه وآله وسلم) ‏وحديثه الشريف، أما لو حصل التعرُّف ‏على واقع الصحابة، وأُعطي كلُّ ذي حقٍّ حقَّه مِن نقْدِ حمَلةِ الحديث ‏وتمييز الصادق من الكاذب، وتنقية الحديث الشريف من الأكاذيب ‏والموضوعات، والأساطير والخرافات، فإنه – بلا أدنى شك – سيكون ‏ذلك سدًّا منيعًا بوجه المتربِّصين بالإسلام والمسلمين. ‏
‏هذا، ومما يجدر لفْت النظر إليه – أيضًا – أنّ الشيعة الإمامية لا يبغُضون ‏جميع الصحابة، ولا يعادونهم؛ ذلك أن منهم مَن كان من الصدِّيقين، ‏ومنهم من تشتاق إليهم الجنة، ويباهي الله بهم ملائكته، ومنهم من هو ‏في منازل أصحاب اليمين، ومنهم من هو دون ذلك، ومنهم من ‏ينقلب على عقبَيه، ويعود مرتدًّا عن الإسلام، بدليل ما رواه البخاري ‏في صحيحه عن النبيّ ‏(صلى الله عليه وآله وسلم)، ‏في حديث الحوض: ((‌أنا ‌فرُطكم ‌على ‌الحوض، فليرفعنّ إليّ رجالٌ منكم، حتى إذا أهويتُ لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أيْ ربِّ أصحابي، يقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك)) [صحيح البخاري، ج6، ص2587، تـ. البغا]، تفسيرًا لقوله ‏تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144]. ‏
‏ثم إن كتاب الله في جملةٍ من آياته قد انتقص بعضًا من الصحابة، وفسّق بعضًا ‏آخر منهم، وصرّح بنفاق بعضٍ، فهل يُتَّهم أيضًا بالعداء للصحابة مثل الشيعة؟!
فقد قال سبحانه: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ ‏مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ‏نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [‏التوبة:101]، وقد نَزَل قولُه تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ ‏فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ ‏نَادِمِينَ} [الحجرات:6] ـ بإطباق أكثر المفسِّرين وأرباب ‏أسباب النزول ـ في الوليد بن عقبة.‏
ومنهم من ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قائمًا في مسجده يخطب الجمعة، ‏وذهبوا وراء التجارة واللهو، فقال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ ‏لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11].
ومنهم من تواطأ على اغتيال رسول الله ‏(صلى الله عليه وآله وسلم)‏ ليلة العقَبة، وكان عددهم ‏اثني عشر أو أربعة عشر أو خمسة عشر رجلًا من الصحابة، قال ‏تعالى: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة: 74]، وهذه الآية – ‏بإطباق أكثر المفسرين – نزلتْ في هؤلاء عندما همّوا وأرادوا الفتك ‏برسول الله ‏(صلى الله عليه وآله وسلم)‏. ‏
وقد صرّح القرآن كذلك بأن عائشة وحفصة صغتْ قلوبُهما، ‏وتظاهرتا على النبيّ ‏(صلى الله عليه وآله وسلم)‏، قال تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ ‏قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ ‏الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]، إلى أنْ قال‏‏: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ ‏عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا ‏وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ*وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ ‏فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:‏‏10-11].‏
وقد هدّد القرآنُ زوجاتِ النبيّ ‏(صلى الله عليه وآله وسلم)‏، وهنّ صحابيّات بلا شك، فقال في ‏شأنهنّ: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ‏الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا*وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِله ‏وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا‏‏} [الأحزاب:30-31]، وهذا عين ما تقوله الإمامية من أنّ ‏الجميع خاضعون للموازين الإسلامية دون استثناء، الصحابة ‏وغيرهم، ونساء النبيّ‏ (صلى الله عليه وآله وسلم)،‏ وغيرهنّ.‏
فعدم الاعتقاد بعدالة أكثر الصحابة ليس عداءً لهم، بل على ‏العكس من ذلك، فلو قام المسلم بالتحقيق في حياة الصحابة، وتحمّل ‏العبء الثقيل فإنما هو لفرْط الاحتياط في أخذ معالم دينه، ومن غير ‏الصحيح أنْ يُتهم من يريد التثبُّت في أمور دينه بالعداء لجميع الصحابة، فالعقل والمنطق السليم يحثّ على البحث عن عدالتهم والتثبُّت من وثاقتهم.‏
وقد صرّح جماعة من أكابر القوم من المتقدّمين والمتأخّرين بأنّ في الصحابة عدولًا وغير عدول، كالسعد التفتازاني. [يُنظر: إحقاق الحقّ ـ للتستري، ج2، ‏ص391ـ392، عن شرح القاصد]، والمازري شارح البرهان. [يُنظر:‏ الإصابة، ج1، ص19؛ والنصائح الكافية، ص161]، وابن العماد الحنبلي. [يُنظر:‏ النصائح الكافية، ص162، عن الآلوسي]، ‏والشوكاني. [يُنظر: ‏إرشاد الفحول، ص158]، وأبي ريّة. [يُنظر:‏ شيخ المضيرة أبو هريرة، ص101]، ومحمد ‏عبدة. [يُنظر:‏ أضواء على السنّة المحمديّة، ص322]، ومحمد بن عقيل. [يُنظر:‏ النصائح الكافية، ص163]، ‏ومحمد رشيد رضا. [يُنظر:‏ شيخ المضيرة أبو هريرة، ص101]، والمقبلي. [يُنظر:‏ المصدر نفسه]، والرافعي. ‏‏[ يُنظر:‏ إعجاز القرآن، ص141]، … وغيرهم. ‏
وجاء عن الشيخ ابن عثيمين في “شرح العقيدة الواسطية”:‏ ((ولا شك أنَّه حصل من بعضهم سرقة وشرب خمر وقذف ‏وزنى بإحصان وزنى بغير إحصان) [شرح العقيدة الواسطية، لابن عثيمين، ج2، ص292‏، ط. دار ابن الجوزي].
فهل هؤلاء كلُّهم متَّهمون بالعداء للصحابة؟!
فالتشنيع على الشيعة أنهم يُعادون الصحابة هو في الواقع اتّهامٌ واضح لكتاب الله وسنة نبيِّه ‏(صلى الله عليه وآله وسلم)‏ وجملةٍ كبيرة من علماء الإسلام، لما ذكرناه آنفًا، ومن أراد التحقق فليسأل الشيعة عن عقيدتهم بعمار بن ياسر، وسلمان المحمدي (الفارسي)، وأبي ذر، والمقداد، وأبي أيوب الأنصاري، وخزيمة ذي الشهادتين، وابن عباس، وحذيفة بن اليمان، وأبي الهيثم مالك بن التيهان، وحجر بن عدي، ونحوهم من الصحابة العدول الأتقياء مما لا يَسع هذا المختصر إحصائهم بأجمعهم.
وها هو إمام الشيعة الإمام زين العابدين (عليه السلام) يدعو لصحابة رسول الله ‏(صلى الله عليه وآله وسلم)‏، الذين أحسنوا الصحبة بأجمل ما يكون من الدعاء، فيقول: ))اللهم وأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، الذين أحسنوا الصحبة، والذين أبلَوا البلاء الحسن في نصره، وكانَفوه، وأسرعوا إلى وِفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوّته، وانتصروا به ومن كانوا منطوين على محبته، يرجون تجارةً لن تبور في مودّته، والذين هجرتْهم العشائر إذ تعلقوا بعروَته، وانتفتْ منهم القربات إذ سكنوا في ظلِّ قرابته، فلا تنسَ لهم اللهم ما تركوا لك وفيك، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم، وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه، ومن كثرةٍ في إعزاز دينك إلى أقله)) [الصحيفة السجادية، ص١٨].
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.