تفاصيل المنشور
- السائل - فادي
- المُجيب - مهدي الجابري الموسوي
- 87 مشاهدة
تفاصيل المنشور
إنْ كنتمْ تعتقدون أنّ بقاء جسد الميتِ بعد موته علامةُ كرامةٍ، ودليل صلاح، وبشارةٌ بالجنّة، فما قولُكم بأنه قد وُجِدت أجسادُ كثيرٍ من الكفّار والفسّاق محفوظةً وسليمةً، ولم تبلَ، فهؤلاءِ على عقيدتكم هم أهلُ كرامةٍ وصلاح، بل ويكونون من أهل الجنة أيضًا!!
السائل
فادي
إنْ كنتمْ تعتقدون أنّ بقاء جسد الميتِ بعد موته علامةُ كرامةٍ، ودليل صلاح، وبشارةٌ بالجنّة، فما قولُكم بأنه قد وُجِدت أجسادُ كثيرٍ من الكفّار والفسّاق محفوظةً وسليمةً، ولم تبلَ، فهؤلاءِ على عقيدتكم هم أهلُ كرامةٍ وصلاح، بل ويكونون من أهل الجنة أيضًا!!
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله، وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
إنّ هذا الإشكال من أوهى الشبُهات وأبعدها عن التحقيق؛ لأنّه بُني على أساسٍ فاسد، وهو جعْل سلامة الجسد بعد الموت دليلًا على السعادة والكرامة، وهذا من التخبُّط؛ إذ المدارُ في عاقبة الإنسان هو الإيمان والطاعة، لا ما يبدو على الأجساد من آثار طبيعيّة.
فنحن نقول: الروايات الواردةُ عن الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) نصّت على أنّ بعض الأعمال المخصوصة، كالمداومة على غُسل الجمعة، يترتّب عليها أنْ لا تأكلَ الأرضُ جسد صاحبها، وهذا وعدٌ ربّانيٌّ صادق، لا يتوقّف على طبيعة التربة ولا على حالة المناخ.. فهو من سنخ الإكرام الغيبيِّ، لا من سنخ العوامل المادّيّة.. أمّا ما يظهر من بقاء أجساد بعض الفسّاق والكفّار، فهو أمرٌ راجعٌ إلى التّربة أو المناخ أو الجفاف أو نحو ذلك من الأسباب الطبيعيّة، وأيّ عاقلٍ يُسوّي بين جسدٍ حفظتْه الأرض برطوبةٍ أو برودةٍ، وبين جسدٍ وعَد اللهُ تبارك وتعالى بحفظه تكريمًا له؟!
وهنا شاهدٌ واقعيٌّ لا يماري فيه أحدٌ:
أجسادُ الفراعنة التي حُنِّطت منذ آلاف السنين ما زالت تُعرَض في المتاحف بملامحها وجلودها، يراها كلُّ إنسانٍ بعينه، فهل يجرؤ عاقلٌ على القول: إنّها آيةُ كرامةٍ، وإنّ فرعون وأضرابه صاروا أولياء لله جلّ وعلا؟! بل إنّ القرآن الكريم نفسَه قد قطع العذر في هذا الباب، إذ قال سبحانه مخاطبًا فرعون: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92]. فالآية صريحةٌ بأنّ الله أبقى جسده لا تكريمًا له، بل إهانةً وعبرةً للبشر، ليكون جسدُه الآفلُ شاهدًا على خزيه، لا على منزلته. فبقاءُ الجسد قد يكون آيةَ غضبٍ كما قد يكون آية كرامةٍ، ولا يُعرف أحدهما من الآخر إلا بالوحي.
فإنْ قيل: إنّا لم نرَ كثيرًا من هذه الكرامات في الخارج، فأين أثرُ الوعد؟
قلنا: وهل كلّ ما وعد اللهُ سبحانه به يلزم أنْ يُعرض على أعينكم ليطمئنّ وجدانُكم؟! العاقل يكتفي بثبوت النصّ عن المعصوم، ولا يجعل عدمَ مشاهدته حجّةً على بطلان القول. فدعواكم أشبهُ بقول مَن أنكر الملائكة؛ لأنّه لم يرَها بعينه.
فإنْ قيل: وما الفرقُ بين بقاء جسد المؤمن والفاسق، وكلاهما قد شوهد باقيًا؟
قلنا: الفرقُ هو الدليل. المؤمنُ ثبَت نصٌّ في شأنه، فهو خارجٌ عن حكم الطبيعة، والفاسقُ لم يثبُت فيه نصٌّ، فيُردّ إلى العلل المادّيّة. فمن سوّى بينهما فقد سوّى بين ما ثبت بالوحي وبين ما وقع بأسبابٍ طبيعيّة نادرة جدًّا. وهذا قلبٌ للحقائق، بل هو عين المكابرة.
فإنْ قيل: قد يُقال: إنّ الحفريّات لم تستوعبْ كلّ الأرض، فلعلّ فيها أجسادًا محفوظة لم تُكشَف؟
قلنا: حتى لو وُجِدت، فهي من باب النادر، والنادرُ لا يُجعَل أصلًا ولا قاعدة. والعبرة بما اطّرد في سُنن الله سبحانه في الأرض، وهو أنّ الجسد يبلَى، ويفنى، وما خرج عن ذلك فهو استثناءٌ إلهيٌّ أو أثرٌ طبيعيٌّ خاصّ، لا أكثر.
فإنْ قيل: فما الفائدة من النصوص إذا كانتِ الكرامة لا تُرى غالبًا؟
قلنا: الفائدة هي وعد المؤمن وتطمينُه أنّ طاعته لا تضيع، وأنّ لله عزّ وجل عنايةً خاصّةً بأوليائه، يُظهِرها حيث يشاءُ، ويسترها حيث يشاء. وأيّ عاقلٍ يجعل خفاء الكرامة دليلًا على عدمها؟! بل هذا من قصور النظر؛ لأنّ كثيرًا من ثواب الأعمال مخفيٌّ إلى يوم القيامة، أ فينكرونه لعدم مشاهدته الآن؟!
والنتيجة أنّ الإشكال ساقطٌ؛ لأنّه بنى دليله على خلطٍ فاضحٍ؛ إذ جعل ما هو من سُنن الأرض معيارًا لما هو من سُنن الوعد الإلهيّ. ولو لزم ما يقولون للزم إثباتُ الكرامة لفرعون والمجوس وكلّ محنَّطٍ وميتٍ حفظتْه الأرض، مع أنّ القرآن الكريم صرّح بأنّ بقاء جسد فرعون إنّما كان آية غضبٍ وإذلالٍ، لا آية رحمةٍ وكرامة. فهل بعد هذا من سفهٍ أوضح؟
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.
مركز الدليل العقائدي.