مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

فهم الصحابة وتعاطيهم مع حديث الغدير

تفاصيل المنشور

السؤال

لو كان المراد من حديث غدير خم الخلافة والإمرة حقّاً لما فات هذا المعنى الصحابة، حيث لم يفهموا من الحديث هذا المعنى، ولو أنهم فهموا هذا المعنى لما تخلفوا عن بيعة عليّ بعد وفاة الرسول مباشرة؟!

السائل

مراد الراوي

تفاصيل المنشور

السؤال

لو كان المراد من حديث غدير خم الخلافة والإمرة حقّاً لما فات هذا المعنى الصحابة، حيث لم يفهموا من الحديث هذا المعنى، ولو أنهم فهموا هذا المعنى لما تخلفوا عن بيعة عليّ بعد وفاة الرسول مباشرة؟!

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله المطهرين..
أمّا دعوى أنّ الصحابة لم يفهموا من حديث الغدير الخلافة والإمرة، فهي مردودة بقرائن كثيرة، نكتفي منها هنا بذكر ثلاث قرائن فقط:
القرينة الأَوّلى: ما رواه أحمد في “مسنده” بسند صحيح عن رياح بن الحرث قال: ((جاء رهط إِلى عليّ بالرحبة، فقالوا: السلام عليك يا مولانا. فقال: كيف أكون مولاكم، وأنتم قوم عرب؟، قالوا: سـمعنا رسول الله يقول يوم غدير خم: من كنت مولاه فهذا مولاه. قال رياح: فلما مضوا اتبعتهم فسألت من هؤلاء؟ قالوا: نفر من الأنصار فيهم أبو أيوب الأنصاري)) [مسند أحمد، ج17، ص36، قال حمزة أحمد الزين (المحقّق للمسند): إسناده صحيح].
فهنا نجد أنّ هؤلاء الصحابة من الأنصار الذين أقبلوا إِلى الكوفة والذين شهدوا بأنّهم سمعوا هذا الحديث مباشرة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسّروه بما فسّر به الطبري الأولوية من قوله سبحانه وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}[الأَحزاب:6]، أَيّ أنّهم فهموا من حديث رسول الله نفاذ حكم عليّ (عليه السلام) فيهم ولزوم إطاعتهم له كما يطيع العبد سيده، بدليل أنّ عليّاً (عليه السلام) أشكل عليهم بإشكال استنكاري أراد منهم بيان الحقيقة من هذه الدعوى أمام الناس جميعاً، كما هو شأنه (عليه السلام) في اللجوء إِلى هذه الطريقة أمام الناس حين جاء إلى الكوفة، وحديث المناشدة الذي شهد فيه اثنا عشر بدرياًــ وفي بعض الروايات شهد له ثلاثون صحابياًــ في مسجد الكوفة أنّهم سمعوا حديث الغدير من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معروف ومشهور، رواه أغلب المحدّثين، فقال (عليه السلام) للقوم هنا: كيف أكون مولاكم، وأنتم قوم عرب؟!
أَيّ كيف تكونون عبيدا لي والحال أنّكم من العرب الأحرار الذين لا يصحّ استرقاقهم شرعاً ولستم من الموالي ــ الذين يجوز استرقاقهم ــ كالعجم والروم.. فقالوا: سـمعنا رسول الله يقول يوم غدير خم: من كنت مولاه فهذا مولاه.. فهؤلاء الأصحاب من الأنصار فهموا من حديث الغدير أنّ المراد به الأولوية بمعنى نفوذ الحكم والطاعة لا بمعنى الاسترقاق.. وهذا دليل صريح على فهم الصحابة التام لمراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من حديثه يوم غدير خم..
القرينة الثانية: ما رواه السيوطي في كتابه (الإزدهار فيما عقده الشعراء من الأحاديث والآثار) من شعر الصحابي حسان بن ثابت في نفس واقعة غدير خم، والذي جاء فيه:
((يناديهم يوم الغدير نبيّهم *** بخم فأسمع بالرسول مناديا
وقال فمن مولاكم ووليكم *** فقالوا ولم يبدوا هناك تعاميا
إلهك مولانا، وأنت وليُّنا *** ولم يلف منا في الولاية عاصيا
فقال له: قم يا عليّ فإنني *** رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه *** فكونوا له أنصار[أتباع] صدق مواليا
هناك دعا اللّهُم وال وليه *** وكن بالذي عادى عليّاً معادياً)) [الإزدهار فيما عقده الشعراء من الأحاديث والآثار ــ السيوطي، ص18].
ومن الواضح جداً أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أقرّ هذا الصحابي على بيانه هذا لمعنى الولاية بأن المراد بها الإمامة وليست المحبة أو النصرة؛ إِذ لم يصلنا ردع من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عن فهمه هذا، وإقرار النبيّ حجّة باتفاق المسلمين.
القرينة الثالثة: احتجاج عليّ (عليه السلام) نفسه بحديث الغدير عندما نوزع في خلافته.. فلو لم يكن حديث الغدير دالا على الخلافة لما كان هناك وجه للاحتجاج به عند المنازعة على الخلافة.. وهذا المعنى قد نصّ عليه جمع من علماء أهل السنّة.. نذكر منهم:
1ـ ابن حجر المكي، المتوفى سنة 974هـ، قال في “الصواعق المحرقة”: ((وفي رواية لأحمد أنّه سمعه من النبي [صلى الله عليه وآله وسلم] ثلاثون صحابياً، وشهدوا به لعلي لما نوزع أيّام خلافته…)) [الصواعق المحرقة، ج1، ص107].
2ـ الملا علي القاري، المتوفى سنة 1014هـ، قال في “مرقاة المفاتيح”: ((في رواية أحمد أنّه سمعه من النبيّ ثلاثون صحابياً، وشهدوا به لعلي لما نوزع أيام خلافته)) [مرقاة المفاتيح، ج11، ص248].
3ـ أبو عبد الله الزرقاني المالكي، المتوفى 1122هـ، قال في “شرح المواهب “: ((وهو متواتر رواه ستة عشر صحابياً، وفي رواية لأحمد أنه سمعه من النبي [صلى الله عليه وآله وسلم] ثلاثون صحابياً وشهدوا به لعلي لما نوزع أيام خلافته)) [شرح المواهب، للزرقاني، ج7، ص13].
أمّا الدعوى الثانية وهي فعل الصحابة.. بمعنى إنّه لو كان دلالة حديث الغدير على الخلافة لعليّ بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة لما تخلّف الصحابة عن ذلك وذهبوا إِلى مبايعة غيره؟!
وجوابه: لم يثبت عندنا ولا عندكم عصمة الصحابة وأنّهم قوم لا يخطئون.. فهاهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخبرنا بأحاديث صحيحة صريحة متضافرة رواها البخاري ومسلم عن ارتداد أصحابه من بعده وأنّه لا ينجو منهم إلا مثل همل النعم. أَيّ القليل جداً. [صحيح البخاري، ج7، ص206، كتاب الرقاق، باب في الحوض، صحيح مسلم، ج7، ص68 باب إثبات حوض نبينا]، وهي أحاديث واضحة لا يمكن حملها على المرتدين أَو الجفاة من الأعراب كما يحاول البعض أن يحرف الأحاديث الصحيحة عنده بما يلائم هواه ومشربه.. ففي هذه الأحاديث عبارات صريحة جداً لا تقبل التأويل، نحو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أصحابي..)، وقوله: (فأقول يا ربّ أصحابي أصحابي..)، الظاهرة في أنّ المبدّلين من بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) والمحدِثين في الدين هم ممن صحبه وخالطه.
ونحو قوله: (رجال منكم)، (أعرفهم ويعرفونني..)، وهي عبارات لا يمكن حملها على المرتدين من الأعراب في أطراف الجزيرة.. فاحاديث الحوض صريحة جداً في الصحابة ولا يمكن دفعها بأيّ حال من الأحوال، ومن هنا نجد الإمام مالك يندم على إدراج أحاديث الحوض في موطأه ــ على صحّتهاــ، قال أحمد الصديق المغربي في “فتح الملك العلي”: ((حكي عن مالك أنّه قال: ما ندمت على حديث أدخلته في الموطأ إلاّ هذا الحديث، وعن الشافعي أنّه قال: ما علمنا في كتاب مالك حديثاً فيه إزدراء على الصحابة إلا حديث الحوض، ووددنا أنّه لم يذكره)) [فتح الملك العلي، ص151].
بل وجدنا اعتراف الصحابة أنفسهم أنّهم أحدثوا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهاهو البخاري يروي في “صحيحه” عن العلاء بن المسيب، عن أبيه، قال: ((لقيت البراء بن عازب فقلت: طوبى لك، صحبت النبي [صلى الله عليه وآله وسلم]. وبايعته تحت الشجرة. فقال: يا بن أخي، أنّك لا تدري ما أحدثنا بعده!)) [صحيح البخاري، ج3، ص30].
وذكر ابن حجر في “فتح الباري”: قال أبو سعيد فيما أخرجه البزار بسند جيد: ((وما نفضنا أيدينا عن دفنه [أي عن دفن رسول الله] حتّى أنكرنا قلوبنا!!)) [فتح الباري، ج8، ص114].
وقد أخرج الحاكم في مستدركه عن عائشة قولها: ((إنّي أحدثت بعد رسول الله[صلى الله عليه وآله وسلم] حدثاً، ادفنوني مع ازواجه)) [المستدرك على الصحيحين، ج4، ص87، صححها الحاكم ولم يتعقبه الذهبي بشيء، وقال الألباني في: سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج1، ص676: تعني بالحدث مسيرها يوم الجمل، فإنّها ندمت ندامة كلية].
فدعوى وقوع الأخطاء من الصحابة والإحداث في الدين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أمر ثابت لا يمكن لأحد دفعه بأي طريق كان، فقد جاءت به الروايات الصحيحة من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبشهادة الصحابة أنفسهم، وها هو التفتازاني من كبار علماء أَهل السنّة ومتكلميهم يقرّ بهذه الحقيقة، فيقول في كتابه “شرح المقاصد”: ((وأمّا ما وقع بين الصحابة من المحاربة والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ، والمذكور على السنّة الثقات يدلّ بظاهره على أنَّ بعضهم قد حاد عن طريق الحق، وبلغ حد الظلم والفسق، وكان الباعث له الحقد والحسد واللداد وطلب الملك والرياسة والميل إِلى اللذات والشهوات إذ ليس كل صحابي معصوماً ولا كل من لقي النبيّ’ بالخبر موسوماً، إلا أنّ العلماء لحسن ظنّهم بأصحاب رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم] ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق، وذهبوا إِلى أنّهم محفوظون عما يوجب التضليل والتفسيق صوناً لعقائد المسلمين عن الزيغ والضلال في حقّ كبار الصحابة)) [شرح المقاصد في علم الكلام، ج2، ص306].
وما شهد به العلامة التفتازاني هنا بحقّ الصحابة من تكالبهم على الدنيا وتنافسهم فيها ليس هو سوى التصديق العملي لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين خاطب الصحابة قبل وفاته قائلاً: ((إِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا، وَتَقْتَتِلُوا فَتَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ”، قَالَ عُقْبَةُ: فَكَانَتْ آخِرَ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ’ عَلَى الْمِنْبَرِ)) [صحيح مسلم، ج7، ص68، باب إِثبات حوض نبيّنا].
وها هو الغزالي يشهد على الصحابة بأنّهم انحرفوا عن قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في يوم غدير خم وتركوه وراء ظهورهم طمعا بالدنيا والرياسة، قال في “سرّ العالمين”: ((لكن أسفرت الحجّة وجهها، وأجمع الجماهير على متن الحديث، من خطبته في يوم غدير خم، باتّفاق الجميع، وهو يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه. فقال عمر: بخ بخ يا أبا الحسن، لقد أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة. فهذا تسليم ورضى وتحكيم، ثمّ بعد هذا غلب الهوى لحب الرياسة، وحمل عمود الخلافة، وعقود البنود، وخفقان الهوى في قعقعة الرايات، واشتباك ازدحام الخيول، وفتح الأمصار؛ سقاهم كأس الهوى، فعادوا إِلى الخلاف الأول، فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمناً قليلاً)) [مجموعة رسائل الإمام الغزالي، كتاب سر العالمين، ص483].
والحمد لله أوّلا وآخراً، وصلّى الله وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.