مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

عنوان المذهب ينساب من أصول رموزه الإسلامية

السائل = طالب علم
السؤال = هناك من يقول: من المعلوم أنّ الإسلام قد ظهر بين العرب، وخُصّوا به في بادئ الأمر ليُنشر منهم لباقي الشعوب، وأنتُم ـ يا شيعة ـ تقولون: إنّ التشيُّع أصل الإسلام، فكيف آلَ الأمر بأنْ تكون إيران ـ وهي بلادٌ فارسية، ليست عربية ـ عنوان التشيُّع، وهي درعُه وحِصنه؟!

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
مجاراةً للطرح المذكور في السؤال، يمكن أنْ يقال: إنه لا يكون للمذهب عنوانٌ، ولا يستمدّ هويّته إلا من رموزه وقادته، فهوية المذهب، أو ما يمكن تسميته بـ “العنوان” هنا، تنبع أو تنساب من الرموز والقادة البارزين في هذا المذهب أو ذاك، من نحو تسمية المذاهب السُّنية الأربعة بأسماء رموزها وأئمتها، كالمذهب الحنبلي نسبةً إلى أحمد بن حنبل، والمذهب الشافعي نسبة إلى محمد بن إدريس الشافعيّ، والمذهب الحنفي نسبة إلى أبي حنيفة، والمذهب المالكي نسبة إلى مالك بن أنس الأصبحي.. فإنّ هؤلاء الأئمة الأربعة ـ وهم أعمدة المذاهب السُّنية ـ هم ليسوا من العرب!!
فإمام المذهب الحنفي قالوا عنه: ((إن ‌أصل ‌أبي ‌حنيفة من ترمذ، وروي أنّ أصله من نسا)) [أخبار أبي حنيفة وأصحابه، للصيمري، ص16].
وأما إمام المذهب المالكي فقالوا عنه: ((إنه مولى لبني تيم، وروي عن ابن شهاب أنه قال: حدثني نافع بن مالك: مولى التيميين، وأما أمُّه: قال ابن عائشة: إنها طليحة مولاة عبد الله بن معمر. وقد قال بن عمران التميمي القاضي: ما بيننا وبينه نسب إلا أنّ أمّه مولاة لعمّي عثمان بن عبد الله)) [الديباج المذهَّب في معرفة أعيان علماء المذهب، ج1، ص83].
وأما إمام المذهب الحنبلي، فقالوا عنه: ((إمام المحدِّثين والناصر للدين والمناضل عن السُّنة والصابر ‌في ‌المحنة، ‌مروزيّ ‌الأصل)) [الأنساب، للسمعاني، ج4، ص280].
وأما إمام المذهب الشافعي فقالوا عنه: ((إن أصحاب مالك لا يُسلِّمون أنّ نسب الشافعي رضي الله تعالى عنه من قريش، بل يزعمون أنّ ‌شافعاً ‌كان ‌مولى ‌لأبي ‌لهب، فطَلب من عمر أن يجعله من موالي قريش، فامتنع، فطَلب من عثمان ذلك، ففعل، فعلى هذا التقدير يكون الشافعي رضي الله تعالى عنه من الموالي لا من قريش)) ‏[مناقب الإمام الشافعي، للرازي، ص5].‏
إذًا، أعمدة المذاهب السُّنية الأربعة، ليسوا من العرب!!‏
وبعبارة جامعة تُغني عن التفصيل، نقول: إن التسنُّن شمل بلاد فارس من القرن الأول حتى العاشر، ولم يتشيَّعوا إلا بعد قيام الدولة الصفوية، ويقول ابن خلدون في تاريخه: ((إن حمَلة العلم في الإسلام أكثرُهم العجم. من الغريب الواقع أنّ حمَلة العلم في الملّة الإسلاميّة أكثرهم العجم لا من العلوم الشّرعيّة ولا من العلوم العقليّة إلّا في القليل النّادر. وإن كان منهم العربيّ في نسبته فهو أعجميّ في لغته ومربّاه ومشيخته، مع أنّ الملّة عربيّة وصاحب شريعتها عربيّ)) [تاريخ ابن خلدون، ج1، ص747]، وقال في المصدر نفسه: ((وكذا حمَلة الحديث الّذين حفظوه عن أهل الإسلام، أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة والمربَّى؛ لاتّساع الفنّ بالعراق. وكان علماء أصول الفقه كلّهم عجمًا كما يعرف، وكذا حملة علم الكلام، وكذا أكثر المفسّرين. ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلّا الأعاجم)) [المصدر نفسه، ص 748]، وقال – أيضًا – في المصدر نفسه: ((وأمّا العلوم العقليّة أيضًا فلم تظهر في الملّة إلّا بعد أن تميّز حمَلة العلم ومؤلّفوه. واستقرّ العلم كلّه صناعة، فاختصّت بالعجم، وتركتْها العرب)) [المصدر نفسه، ص749].
وعن حقيقة كون كثير من سلف أهل السُّنة من الصحابة والتابعين هم من بلاد ‏فارس، يقول ابن تيمية في كتابه “اقتضاء الصراط”، مقرًّا بذلك: ((ومصداق ذلك ما وجد في ‏التابعين ومَن بعدهم من أبناء فارس الأحرار والموالي، مثل الحسن وابن سيرين وعكرمة مولى ابن ‏عباس وغيرهم، إلى من وجد بعد ذلك فيهم من المبرَّزين في الإيمان والدين والعلم، حتى صار هؤلاء ‏المبرَّزون أفضلَ من أكثر العرب… إذ الفضل الحقيقي هو اتّباع ما بعث الله به محمدًا صلى الله ‏عليه وسلم من الإيمان والعلم باطنًا وظاهرًا، فكل من كان فيه أمكن، كان أفضل، والفضل إنما هو ‏بالأسماء المحمودة في الكتاب والسُّنة، مثل الإسلام والإيمان والبر والتقوى والعلم والعمل الصالح ‏والإحسان ونحو ذلك، لا بمجرد كون الإنسان عربيًّا أو عجميًّا أو أسود أو أبيض، ولا بكونه قرويًّا ‏أو بدويًّا)) [اقتضاء الصراط، لابن تيمية، ص145].‏
إذًا، الغالب على رموز وأئمة المذهب السُّني أنهم من بلاد فارس، ولا يُنكِر هذه الحقيقة إلا مكابر معاند.
أما أئمة الشيعة الاثني عشر ابتداءً من الإِمام عليٍّ (عليه السلام) حتى الإِمام الثاني عشر محمد بن الحسن (عليه السلام)، فهم سادة العرب ومن صميمهم، وبيت هاشم ـ وذلك معروف ـ أشرف البيوتات العربية بلا منازع، يأتي بعد ذلك الروّاد الأوائل من حملة علوم أهل البيت وبيوتات وأُسَر الشيعة الذين حملوا التشيُّع، وبشّروا به، فإنّهم من صميم العرب، وذلك ابتداءً من أقطاب مدرسة الإِمام الصادق عليه السلام، مثل أبان بن تغلب بن رباح الكندي، وبيت آل أعين، وبيت آل حيان التغلبي، وآل عطية، وبني دراج وغيرهم. [ينظر: هوية التشيع، ص89 – 90].
ويقول المستشرق آدم متز في كتابه “الحضارة الإسلامية”: ((إنّ مذهب الشيعة ليس كما يعتقد البعض ردَّ فعلٍ من جانب الروح ‏الإيرانية، يخالف الإسلام، فقد كانت جزيرة العرب شيعة كلّها عدا المدن الكبرى، مثل مكة وتهامة ‏وصنعاء وكان للشيعة غلبة في بعض المدن أيضًا مثل عمان، وهجر وصعدة، أمّا إيران فكانت كلّها ‏سنّة ، ما عدا قم، وكان أهل إصفهان يغالون في معاوية حتّى اعتقد بعض أهلها أنّه نبيٌّ مرسل)). ‏‏[الحضارة الإسلامية، آدم متز، ص102].‏
فتحصَّل من ذلك أن جميع رموز المذهب الشيعي وأئمتهم من العرب الأقحاح بلا منازع، ومن هنا قلنا، ونقول: إن أساس التشيُّع هو الإسلام حقًّا وحقيقة، وليس له عنوان آخر، على رغم أنف المرجفين، والفرس كغيرهم من الهنود والترك والصينيين والأفغان والأكراد وغيرهم من المسلمين، يشكِّلون جزءًا من الشيعة، والذي اجتذب هؤلاء وغيرهم إلى التشيُّع هو الإسلام الصحيح، وحبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأهل بيته من الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
وننوِّه هنا إلى أن هذا الطرح ـ وهو كون (إيران، وهي بلادٌ فارسية، ليست عربية) – هو في الواقع إيقاظ للقومية والحميَّة الجاهلية بين المسلمين على جميع الصُّعُد الاجتماعية، وكفى بها عصبية، وهو مما يتنافى مع القيم والمبادئ الإسلامية السامية، فمجرد كون المسلم عربيًّا لا يجعله أفضل من المسلم الأعجمي، وإنما التفاضل بالتقوى، ‏فمن كان أتقى لله كان هو الأفضل والأكرم، سواء كان عربيًّا أو أعجميًّا، فالمعيار الحقيقي إنما هو بالإيمان والعمل الصالح، قال تعالى جلّ شأنه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ} [الحجران:13].
وعلاوة على ذلك، فإن الإسلام ليس حكرًا على العرب حتى يُعاب على غيرهم إسلامهم أو يُستهان به، فقد نصَّت آيات الكتاب الكريم على أنّ النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أرسل إلى الناس كافة، فقال عزّ من قائل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28]، وقال: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِالله شَهِيدًا} [النساء:79]، فالناس أمام الشرع سواء كما قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
فالإسلام لا يلتفت إلى الفوارق الصوْريّة والخُلُقية بين الناس؛ وإنما إلى إيمانهم وتقواهم بفعل ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه، فقد روى أحمد في مسنده، عن أَبِي نضْرة، أنه قال: ((حدثني من سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق، فقال: “يا أيها الناس، ألا إنّ ربكم واحد، ‌وإن ‌أباكم ‌واحد، ألا لا فضل لعربيٍّ على عجميّ، ولا لعجميٍّ على عربيّ، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى، أ بلَّغت؟ قالوا: بلَّغ رسول الله، ثم قال: “أيّ يومٍ هذا؟ قالوا: يوم حرام، ثم قال: “أي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: ثم قال: ” أيّ بلد هذا؟ “، قالوا بلد حرام، قال: “فإنّ الله قد حرّم بينكم دماءكم وأموالكم” ـ قال: ولا أدري قال: أو أعراضكم، أم لا ـ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، أ بلّغت؟”، قالوا: بلّغ رسول الله، قال: “ليبلغِ الشاهد الغائب”))‏ [مسند أحمد، ج38، ص474، ط. الرسالة]، ‏ وصحَّحه الألباني. [السلسلة الصحيحة، ج6، ص199].
وها هو النبي الأعظم‏ (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكِّد على قوّة إيمان بعض المسلمين غير العرب، فقد روى البخاريّ في صحيحه، عن أبي هريرة، أنه قال: ((كنّا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأُنزلت عليه سورة الجمعة {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}، قال: قلت: من هم يا رسول الله؟ ‌فلم ‌يراجعه ‌حتى ‌سأل ‌ثلاثًا، وفينا سلمان الفارسي، وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان، ثم قال: “لو كان الإيمان عند الثريا، لناله رجال، أو رجل، من هؤلاء”)). [صحيح البخاري، ج4، ص1858، تـ. البغا].
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.